*دور المنافقين في غزوة بني المصطلق :
ولما كانت غزوة بني المصطلق وخرج فيها المنافقون مثلوا قوله تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة: 47] فقد وجدوا متنفسين للتنفس بالشر، فأثاروا الارتباك الشديد في صفوف المسلمين، والدعاية الشنيعة ضد النبي صلى الله عليه وسلم، وهاك بعض التفصيل عنها:
1 ـ قول المنافقين: [لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الفراغ من الغزوة مقيماً على المُرَيْسِيع، ووردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير يقال له: جَهْجَاه الغفاري، فازدحم هو وسِنَان بن وَبَر الجهني على الماء فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدعوي الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ دعوها فإنها مُنْتِنَة)، وبلغ ذلك عبد الله بن أبي بن سلول فغضب ـ وعنده رهط من قومه، فيهم زيد بن أرقم غلام حدث ـ وقال: أو قد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما نحن وهم إلا كما قال الأول: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأكُلْكَ، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم.
فأخبر زيد بن أرقم عمه بالخبر، فأخبر عمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عمر، فقال عمر: مُرْ عَبَّاد بن بشر فليقتله. فقال: (فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه؟ لا ولكن أَذِّنْ بالرحيل)، وذلك في ساعة لم يكن يرتحل فيها، فارتحل الناس، فلقيه أسيد بن حضير فحياه، وقال: لقد رحت في ساعة منكرة؟ فقال له: (أو ما بلغك ما قال صاحبكم؟) يريد ابن أبي، فقال: وما قال؟ قال: (زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل)، قال: فأنت يا رسول الله، تخرجه منها إن شئت، هو والله الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخَرَز ليتوجوه، فإنه يري أنك استلبته ملكاً.
ثم مشي بالناس يومهم ذلك حتى أمسي، وليلتهم حتى أصبح، وصَدْر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مَـسَّ الأرض فوقعوا نياماً. فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث.
أما ابن أبي فلما علم أن زيد بن أرقم بلغ الخبر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحلف بالله ما قلت ما قال، ولا تكلمت به، فقال من حضر من الأنصار: يا رسول الله عسي أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم يحفظ ما قال الرجل. فصدقه، قال زيد: فأصابني هَمٌّ لم يصبني مثله قط، فجلست في بيتي، فأنزل الله: {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} إلى قوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا} إلى {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون: 1 ـ 8]، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها علي. ثم قال: (إن الله قد صدقك).
وكان ابن هذا المنافق ـ وهو عبد الله بن عبد الله بن أبي ـ رجلاً صالحاً من الصحابة الأخيار، فتبرأ من أبيه، ووقف له على باب المدينة، واستل سيفه، فلما جاء ابن أبي قال له: والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه العزيز وأنت الذليل، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم أذن له فخلي سبيله، وكان قد قال عبد الله ابن عبد الله بن أبي: يا رسول الله، إن أردت قتله فمرني بذلك، فأنا والله أحمل إليك رأسه.
2 ـ حديث الإفك
وفي هذه الغزوة كانت قصة الإفك، وملخصها: أن عائشة رضي الله عنها كانت قد خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه في هذه الغزوة بقرعة أصابتها، وكانت تلك عادته مع نسائه، فلما رجعوا من الغزوة نزلوا في بعض المنازل، فخرجت عائشة لحاجتها، ففقدت عقداً لأختها كانت أعارتها إياه، فرجعت تلتمسه في الموضع الذي فقدته فيه في وقتها، فجاء النفر الذين كانوا يرحلون هَوْدَجَها فظنوها فيه فحملوا الهودج، ولا ينكرون خِفَّتَه؛ لأنها رضي الله عنها كانت فَتِيَّةَ السن لم يَغْشَهَا اللحم الذي كان يثقلها، وأيضاً فإن النفر لما تساعدوا على حمل الهودج لم ينكروا خفته، ولو كان الذي حمله واحداً أو اثنين لم يخف عليهما الحال، فرجعت عائشة إلى منازلهم، وقد أصابت العقد، فإذا ليس به داع ولا مجيب، فقعدت في المنزل، وظنت أنهم سيفقدونها فيرجعون في طلبها، والله غالب على أمره، يدبر الأمر من فوق عرشه كما يشاء، فغلبتها عيناها، فنامت، فلم تستيقظ إلا بقول صفوان بن المُعَطَّل: إنا لله وإنا إليه راجعون، زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وكان صفوان قد عَرَس في أخريات الجيش ؛ لأنه كان كثير النوم، فلما رآها عرفها، وكان يراها قبل نزول الحجاب، فاسترجع وأناخ راحلته، فقربها إليها، فركبتها، وما كلمها كلمة واحدة، ولم تسمع منه إلا استرجاعه، ثم سار بها يقودها، حتى قدم بها، وقد نزل الجيش في نحر الظهيرة، فلما رأي ذلك الناس تكلم كل منهم بشاكلته، وما يليق به، ووجد الخبيث عدو الله ابن أبي متنفساً، فتنفس من كرب النفاق والحسد الذي بين ضلوعه، فجعل يستحكي الإفك، ويستوشيه، ويشيعه، ويذيعه، ويجمعه ويفرقه، وكان أصحابه يتقربون به إليه، فلما قدموا المدينة أفاض أهل الإفك في الحديث، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لايتكلم، ثم استشار أصحابه ـ لما استلبث الوحي طويلاً ـ في فراقها، فأشار عليه علي رضي الله عنه أن يفارقها، ويأخذ غيرها، تلويحاً لاتصريحاً، وأشار عليه أسامة وغيره بإمساكها، وألا يلتفت إلى كلام الأعداء. فقام على المنبر يستعذر من عبد الله ابن أبي، فأظهر أسيد بن حضير سيد الأوس رغبته في قتله فأخذت سعد بن عبادة ـ سيد الخزرج، وهي قبيلة ابن أبي ـ الحمية القبلية، فجري بينهما كلام تثاور له الحيان، فخفضهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سكتوا وسكت.
أما عائشة فلما رجعت مرضت شهراً، وهي لاتعلم عن حديث الإفك شيئاً، سوي أنها كانت لا تعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي كانت تعرفه حين تشتكي، فلما نَقِهَتْ خرجت مع أم مِسْطَح إلى البَرَاز ليلاً، فعثرت أم مسطح في مِرْطِها، فدعت على ابنها، فاستنكرت ذلك عائشة منها، فأخبرتها الخبر، فرجعت عائشة واستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتأتي أبويها وتستيقن الخبر، ثم أتتهما بعد الإذن حتى عرفت جلية الأمر، فجعلت تبكي، فبكت ليلتين ويوماً، لم تكن تكتحل بنوم، ولا يرقأ لها دمع، حتى ظنت أن البكاء فالق كبدها، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، فتشهد وقال: (أما بعد يا عائشة، فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه، ثم تاب إلى الله تاب الله عليه).
وحينئذ قَلَص دمعها، وقالت لكل من أبويها أن يجيبا، فلم يدريا ما يقولان. فقالت: والله لقد علمت لقد سمعتم هذا الحديث حتى استقر في أنفسكم، وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدقونني بذلك، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتُصَدِّقنِّي، والله ما أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف، قال: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: 18].
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك. فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها: قومي إليه.. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله.
والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالي: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} [ النور: 11: 20]. العشر الآيات.
ثم تحولت واضطجعت، ونزل الوحي ساعته، فَسُرِّي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك، فكانت أول كلمة تكلم بها: (يا عائشة، أما الله فقد برأك)، فقالت لها أمها: قومي إليه. فقالت عائشة ـ إدلالاً ببراءة ساحتها، وثقة بمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله.
والذي أنزله الله بشأن الإفك هو قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ...} العشر الآيات [النور: 11: 20].
وجُلِد من أهل الإفك مِسْطَح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحَمْنَة بنت جحش، جلدوا ثمانين ثمانين، ولم يُحَدّ الخبيث عبد الله بن أبي مع أنه رأس أهل الإفك، والذي تولي كبره ؛ إما لأن الحدود تخفيف لأهلها، وقد وعده الله بالعذاب العظيم في الآخرة، وإما للمصلحة التي ترك لأجلها قتله.
وهكذا وبعد شهر أقشعت سحابة الشك والارتياب والقلق والاضطراب عن جو المدينة، وافتضح رأس المنافقين افتضاحاً لم يستطع أن يرفع رأسه بعد ذلك، قال ابن إسحاق: وجعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنفونه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر: (كيف ترى يا عمر؟ أما والله لوقتلته يوم قلت لي: اقتله، لأرعدت له آنف، ولو أمرتها اليوم بقتله لقتلته). قال عمر: قد والله علمتُ، لأمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري
*البعوث والسرايا بعد غزوة المُرَيْسِيع :
1 ـ سرية عبد الرحمن بن عوف إلى ديار بني xxx بدَوْمَة الجَنْدَل، في شعبان سنة 6 هـ. أقعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يديه وعممه بيده، وأوصاه بأحسن الأمور في الحرب، وقال له: (إن أطاعوك فتزوج ابنة ملكهم)، فمكث عبد الرحمن بن عوف ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، فأسلم القوم وتزوج عبد الرحمن تُمَاضِر بنت الأصبغ، وهي أم أبي سلمة، وكان أبوها رأسهم وملكهم.
2 ـ سرية على بن أبي طالب إلى بني سعد بن بكر بفَدَك، في شعبان سنة 6 هـ. وذلك أنه بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بها جمعاً يريدون أن يمدوا اليهود. فبعث إليهم علياً في مائتي رجل، وكان يسير الليل ويكمن النهار، فأصاب عيناً لهم، فأقر أنهم بعثوه إلى خيبر يعرضون عليهم نصرتهم على أن يجعلوا لهم تمر خيبر. ودل العين على موضع تجمع بني سعد، فأغار عليهم علي، فأخذ خمسمائة بعير وألفي شاة، وهربت بنو سعد بالظُّعنُ، وكان رئيسهم وَبَر بن عُلَيْم.
3 ـ سرية أبي بكر الصديق أو زيد بن حارثة إلى وادي القري، في رمضان سنة 6هـ. كان بطن من فَزَارة يريد اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق. قال سَلَمَة بن الأكْوَع: وخرجت معه حتى إذا صلينا الصبح أمرنا فشننا الغارة، فوردنا الماء، فقتل أبو بكر من قتل، ورأيت طائفة وفيهم الذراري، فخشيت أن يسبقوني إلى الجبل فأدركتهم، ورميت بسهم بينهم وبين الجبل، فلما رأوا السهم وقفوا، وفيهم امرأة هي أم قِرْفَة، عليها قَشْعٌ من أدِيم، معها ابنتها من أحسن العرب، فجئت بهم أسوقهم إلى أبي بكر، فنفلني أبو بكر ابنتها، فلم أكشف لها ثوبا، وقد سأله رسول الله صلى الله عليه وسلم بنت أم قِرْفَة، فبعث بها إلى مكة، وفدي بها أسري من المسلمين هناك.
وكانت أم قرفة شيطانة تحاول اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، وجهزت ثلاثين فارساً من أهل بيتها لذلك، فلاقت جزاءها، وقتل الثلاثون.
4 ـ سرية كُرْز بن جابر الفهري إلى العُرَنِيِّين، في شوال سنة 6 هـ، وذلك أن رهطاً من عُكَل وعُرَينَة أظهروا الإسلام، وأقاموا بالمدينة فاستوخموها، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذود في المراعي، وأمرهم أن يشربوا من ألبانها وأبوالها، فلما صحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الإبل، وكفروا بعد إسلامهم، فبعث في طلبهم كرزاً الفهري في عشرين من الصحابة، ودعا على العرنيين: (اللّهم أعم عليهم الطريق، واجعلها عليهم أضيق من مَسَك)، فعمي الله عليهم السبيل فأدركوا، فقطعت أيديهم وأرجلهم، وسَمُلَتْ أعينهم، جزاء وقصاصاً بما فعلوا، ثم تركوا في ناحية الحرة حتى ماتوا ، وحديثهم في الصحيح عن أنس.
ويذكر أهل السير بعد ذلك سرية عمرو بن أمية الضَّمْرِي مع سلمة بن أبي سلمة، في شوال سنة 6 هـ. أنه ذهب إلى مكة لاغتيال أبي سفيان ؛ لأن أبا سفيان كان أرسل أعرابياً لاغتيال النبي صلى الله عليه وسلم، بيد أن المبعوثين لم ينجحا في الاغتيال، لاهذا، ولا ذاك. ويذكرون أن عمرا قتل في الطريق ثلاثة رجال، ويقولون: إن عمرا أخذ جثة الشهيد خُبَيْب في هذا السفر، والمعروف أن خبيباً استشهد بعد الرَّجِيع بأيام أو أشهر، ووقعة الرجيع كانت في صفر سنة 4 هـ، فلا أدري هل اختلط السفران على أهل السير، أو كان الأمران في سفر واحد في السنة الرابعة، وقد أنكر العلامة المنصورفوري أن تكون هذه السرية سرية حرب أو مناوشة. والله أعلم.
هذه هي السرايا والغزوات بعد الأحزاب، وبني قريظة، لم يجر في واحدة منها قتال مرير، وإنما وقعت فيما وقعت مصادمة خفيفة، فليست هذه البعوث إلا دوريات استطلاعية، أو تحركات تأديبية ؛ لإرهاب الأعراب والأعداء الذين لم يستكينوا بعد. ويظهر بعد التأمل في الظروف أن مجري الأيام كان قد أخذ في التطور بعد غزوة الأحزاب، وأن أعداء الإسلام كانت معنوياتهم في انهيار متواصل، ولم يكن بقي لهم أمل في نجاح كسر الدعوة الإسلامية وخَضْد شوكتها، إلا أن هذا التطور ظهر جلياً بصلح الحديبية، فلم تكن الهدنة إلا الاعتراف بقوة الإسلام، والتسجيل على بقائها في ربوع الجزيرة العربية.
عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة 6 هـ
* سبب عمرة الحديبية :
ولما تطورت الظروف في الجزيزة العربية إلى حد كبير لصالح المسلمين، أخذت طلائع الفتح الأعظم ونجاح الدعوة الإسلامية تبدو شيئاً فشيئاً، وبدأت التمهيدات لإقرار حق المسلمين في أداء عبادتهم في المسجد الحرام، الذي كان قد صد عنه المشركون منذ ستة أعوام.
أري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة، أنه دخل هو وأصحابه المسجد الحرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخبر بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخبر أصحابه أنه معتمر فتجهزوا للسفر.
* استنفار المسلمين :
واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثير من الأعراب، أما هو فغسل ثيابه، وركب ناقته القَصْواء، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم أو نُمَيْلَة الليثي. وخرج منها يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، في ألف وأربعمائة، ويقال: ألف وخمسمائة، ولم يخرج معه بسلاح، إلا سلاح المسافر: السيوف في القُرُب.
* المسلمون يتحركون إلى مكة :
وتحرك في اتجاه مكة، فلما كان بذي الحُلَيْفَة قَلَّد الهدي وأشْعَرَه، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بين يديه عيناً له من خزاعة يخبره عن قريش، حتى إذا كان قريباً من عُسْفَان أتاه عينه، فقال: إني تركت كعب بن لؤي قد جمعوا لك الأحابيش ، وجمعوا لك جموعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون نميل إلى ذراري هؤلاء الذين أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين محزونين، وإن نجوا يكن عنق قطعها الله، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه قاتلناه؟) فقال أبو بكر: الله ورسوله أعلم، إنما جئنا معتمرين، ولم نجئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا.
* محاولة قريش صد المسلمين عن البيت :
وكانت قريش لما سمعت بخروج النبي صلى الله عليه وسلم عقدت مجلساً استشارياً قررت فيه صد المسلمين عن البيت كيفما يمكن، فبعد أن أعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأحابيش، نقل إليه رجل من بني كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوَي، وأن مائتي فارس في قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكُرَاع الغَمِيم في الطريق الرئيسي الذي يوصل إلى مكة. وقد حاول خالد صد المسلمين، فقام بفرسانه إزاءهم يتراءي الجيشان. ورأي خالد المسلمين في صلاة الظهر يركعون ويسجدون، فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا حملنا عليهم لأصبنا منهم، ثم قرر أن يميل على المسلمين ـ وهم في صلاة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن الله أنزل حكم صلاة الخوف، ففاتت الفرصة خالداً.
* تبديل الطريق ومحاولة اجتناب اللقاء الدامي :
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طريقاً وَعْرًا بين شعاب، وسلك بهم ذات اليمين بين ظهري الحَمْض في طريق تخرجه على ثنية المُرَار مهبط الحديبية من أسفل مكة، وترك الطريق الرئيسي الذي يفضي إلى الحرم ماراً بالتنعيم، تركه إلى اليسار، فلما رأي خالد قَتَرَة الجيش الإسلامي قد خالفوا عن طريقه انطلق يركض نذيراً لقريش.
وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بثنية المرار بركت راحلته، فقال الناس: حَلْ حَلْ، فألَحَّتْ ، فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، ثم قال: (والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)، ثم زجرها فوثبت به، فعدل حتى نزل بأقصي الحديبية، على ثَمَد قليل الماء، إنما يتبرضه الناس تبرضاً، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش، فانتزع سهماً من كنانته، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله ما زال يجيش لهم بالري حتى صدروا.
*بُدَيْل يتوسط بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وقريش :
ولما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بديل بن وَرْقَاء الخزاعي في نفر من خزاعة، وكانت خزاعة عَيْبَة نُصْح لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تُهَامَة، فقال: إني تركت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه الحديبية، معهم العُوذ المطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادَوك عن البيت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاءوا ماددتهم، ويخلوا بيني وبين الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جَمُّوا ، وإن هم أبوا إلا القتال فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي، أو لينفذن الله أمره).
قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حتى أتي قريشاً، فقال: إني قد جئتكم من عند هذا الرجل، وسمعته يقول قولا، فإن شئتم عرضته عليكم.
فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تحدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما سمعته. قال: سمعته يقول كذا وكذا، فبعثت قريش مِكْرَز بن حفص، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إلى قريش وأخبرهم.
* رسل قريش :
ثم قال رجل من كنانة ـ اسمه الحُلَيْس بن علقمة: دعوني آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي ذلك. قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت، فرجع إلى أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري أن يصدوا، وجري بينه وبين قريش كلام أحفظه.
فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رُشْد فاقبلوها، ودعوني آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نحواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت لو استأصلت قومك، هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك، وإن تكن الأخري فوالله إني لا أري وجوها، وإني أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر: امصص بَظْر اللات، أنحن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لولا يد كانت عندي لم أجْزِكَ بها لأجبتك. وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم، وكلما كلمه أخذ بلحيته، والمغيرة بن شعبة عند رأس النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه السيف وعليه المِغْفَرُ، فكلما أهوي عروة إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: المغيرة بن شعبة، فقال: أي عُذَر، أو لستُ أسعي في غَدْرَتِك؟ وكان المغيرة صَحِبَ قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبـي صلى الله عليه وسلم: (أما الإسلام فأقبلُ، وأما المال فلست منـه فـي شيء) (وكان المغيرة ابن أخي عروة).
ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إلى أصحابه، فقال: أي قوم، والله لقد وفدت على الملوك، على قيصر وكسري والنجاشي، والله ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تَنَخَّمَ نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يُحِدُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رُشْدٍ فاقبلوها.
*هو الذي كف أيديهم عنكم :
ولما رأي شباب قريش الطائشون، الطامحون إلى الحرب، رغبة زعمائهم في الصلح فكروا في خطة تحول بينهم وبين الصلح، فقرروا أن يخرجوا ليلاً، ويتسللوا إلى معسكر المسلمين، ويحدثوا أحداثاً تشعل نار الحرب، وفعلاً قد قاموا بتنفيذ هذا القرار، فقد خرج سبعون أو ثمانون منهم ليلاً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إلى معسكر المسلمين، غير أن محمد بن مسلمة قائد الحرس اعتقلهم جميعاً.
ورغبة فـــي الصلــح أطلـق سراحهم النبي صلى الله عليه وسلم وعفا عنـهم، وفي ذلك أنزل الله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} [الفتح: 24]
* عثمان بن عفان سفيراً إلى قريش :
وحينئذ أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث سفيراً يؤكد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر بن الخطاب ليرسله إليهم، فاعتذر قائلاً: يا رسول الله، ليس لي أحد بمكة من بني عدي بن كعب يغضب لي إن أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشيرته بها، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إلى قريش، وقال: أخبرهم أنا لم نأت لقتال، وإنما جئنا عماراً، وادعهم إلى الإسلام، وأمره أن يأتي رجالاً بمكة مؤمنين، ونساء مؤمنات، فيبشرهم بالفتح، ويخبرهم أن الله عز وجل مظهر دينه بمكة، حتى لا يستخفي فيها أحد بالإيمان.
فانطلق عثمان حتى مر على قريش بِبَلْدَح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا، قالوا: قد سمعنا ما تقول، فانفذ لحاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به ثم أسرج فرسه، فحمل عثمان على الفرس، وأجاره وأردفه حتى جاء مكة، وبلغ الرسالة إلى زعماء قريش، فلما فرغ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت، فرفض هذا العرض، وأبي أن يطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان :
واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم في الوضع الراهن، ويبرموا أمرهم، ثم يردوا عثمان بجواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال الاحتباس، فشاع بين المسلمين أن عثمان قتل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغته الإشاعة: (لا نبرح حتى نناجز القوم)، ثم دعا أصحابه إلى البيعة، فثاروا إليه يبايعونه على ألا يفروا، وبايعته جماعة على الموت، وأول من بايعه أبو سنان الأسدي، وبايعه سلمة بن الأكوع على الموت ثلاث مرات، في أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). ولما تمت البيعة جاء عثمان فبايعه، ولم يتخلف عن هذه البيعة إلا رجل من المنافقين يقال له: جَدُّ بن قَيْس.
أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه البيعة تحت شجرة، وكان عمر آخذا بيده، ومَعْقِل بن يَسَار آخذا بغصن الشجرة يرفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان التي أنزل الله فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ}الآية [الفتح: 18]
* إبرام الصلح وبنوده :
وعرفت قريش ضيق الموقف، فأسرعت إلى بعث سُهَيْل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له ألا يكون في الصلح إلا أن يرجع عنا عامه هذا، لا تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن عمرو، فلما رآه \ قال: (قد سهل لكم أمركم)، أراد القوم الصلح حين بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل فتكلم طويلاً، ثم اتفقا على قواعد الصلح، وهي هذه:
1. الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع من عامه، فلا يدخل مكة، وإذا كان العام القابل دخلها المسلمون فأقاموا بها ثلاثاً، معهم سلاح الراكب، السيوف في القُرُب، ولا يتعرض لهم بأي نوع من أنواع التعرض.
2. وضع الحرب بين الطرفين عشر سنين، يأمن فيها الناس، ويكف بعضهم عن بعض.
3. من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وتعتبر القبيلة التي تنضم إلى أي الفريقين جزءاً من ذلك الفريق، فأي عدوان تتعرض له أي من هذه القبائل يعتبر عدواناً على ذلك الفريق.
4. من أتي محمداً من قريش من غير إذن وليه ـ أي هارباً منهم ـ رده عليهم، ومن جاء قريشاً ممن مع محمد ـ أي هارباً منه ـ لم يرد عليه.
ثم دعا علياً ليكتب الكتاب، فأملي عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) فقال سهيل: أما الرحمن فوالله لا ندري ما هو؟ ولكن اكتب: باسمك اللّهم. فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. ثم أملي: (هذا ما صالح عليه محمد رسول الله) فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب: محمد بن عبد الله فقال: (إني رسول الله وإن كذبتموني)، وأمر علياً أن يكتب: محمد بن عبد الله، ويمحو لفظ رسول الله، فأبي على أن يمحو هذا اللفظ. فمحاه صلى الله عليه وسلم بيده، ثم تمت كتابة الصحيفة، ولما تم الصلح دخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وكانوا حليف بني هاشم منذ عهد عبد المطلب، كما قدمنا في أوائل الكتاب، فكان دخولهم في هذا العهد تأكيداً لذلك الحلف القديم ـ ودخلت بنو بكر في عهد قريش.
* رد أبي جندل :
وبينما الكتاب يكتب إذ جاء أبو جَنْدَل بن سهيل يَرْسُفُ في قيوده، قد خرج من أسفل مكة حتى رمي بنفسه بين ظهور المسلمين، فقال سهيل: هذا أول ما أقاضيك عليه على أن ترده فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنا لم نقض الكتاب بعد).
فقال: فوالله إذا لا أقاضيك على شيء أبداً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (فأجزه لي). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: (بلى فافعل)، قال: ما أنا بفاعل. وقد ضرب سهيل أبا جندل في وجهه، وأخذ بتلابيبه وجره ؛ ليرده إلى المشركين، وجعل أبو جندل يصرخ بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أأرد إلى المشركين يفتنوني في ديني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجاً ومخرجا، إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهد الله فلا نغدر بهم).
فوثب عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر يا أبا جندل، فإنما هم المشركون، وإنما دم أحدهم دم xxx، ويدني قائم السيف منه، يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب به أباه، فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.
* النَّحْر والحَلْق للحِلِّ عن العمرة :
ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال: (قوموا فانحروا)، فوالله ما قام منهم أحد حتى قال ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد قام فدخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت: يا رسول الله، أتحب ذلك؟ اخرج، ثم لا تكلم أحداً كلمة حتى تنحر بدنك، وتدعو حالقك فيحلقك، فقام فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك، نحر بُدْنَه، ودعا حالقه فحلقه، فلما رأي الناس ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً، وكانوا نحروا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة، ونحر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملاً كان لأبي جهل، كان في أنفه بُرَةٌ من فضة، ليغيظ به المشركين، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للمحلقين ثلاثاً بالمغفرة وللمقصرين مرة. وفي هذا السفر أنزل الله فدية الأذي لمن حلق رأسه، بالصيام، أو الصدقة، أو النسك، في شأن كعب بن عُجْرَة.
* الإباء عن رد المهاجرات :
ثم جاء نسوة مؤمنات فسأل أولياؤهن أن يردهن عليهم بالعهد الذي تم في الحديبية، فرفض طلبهم هذا ؛ بدليل أن الكلمة التي كتبت في المعاهدة بصدد هذا البند هي: (وعلى أنه لا يأتيك منا رجل، وإن كان على دينك إلا رددته علينا) ، فلم تدخل النساء في العقد رأساً. وأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}، حتى بلغ {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحنهن بقوله تعالى: {إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا...} إلخ [الممتحنة: 12]، فمن أقرت بهذه الشروط قال لها: (قد بايعتك)، ثم لم يكن يردهن.
وطلق المسلمون زوجاتهم الكافرات بهذا الحكم. فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك، تزوج بإحداهما معاوية، وبالأخري صفوان بن أمية.
* ماذا يتمخض عن بنود المعاهدة :
هذا هو صلح الحديبية، ومن سبر أغوار بنوده مع خلفياته لا يشك أنه فتح عظيم للمسلمين، فقريش لم تكن تعترف بالمسلمين أي اعتراف، بل كانت تهـدف استئصـال شأفتهم، وتنتظر أن تشهد يوماً ما نهايتهم، وكانت تحاول بأقصي قوتها الحيلولة بين الدعوة الإسلامية وبين الناس، بصفتها ممثلة الزعامة الدينية والصدارة الدنيوية في جزيرة العرب، ومجرد الجنوح إلى الصلح اعتراف بقوة المسلمين، وأن قريشاً لا تقدر على مقاومتهم، ثم البند الثالث يدل بفحواه على أن قريشاً نسيت صدارتها الدنيوية وزعامتها الدينية، وأنها لاتهمها الآن إلا نفسها، أما سائر الناس وبقية جزيرة العرب فلو دخلت في الإسلام بأجمعها، فلايهم ذلك قريشاً، ولا تتدخل في ذلك بأي نوع من أنواع التدخل. أليس هذا فشلاً ذريعاً بالنسبة إلى قريش؟ وفتحا مبيناً بالنسبة إلى المسلمين؟ إن الحروب الدامية التي جرت بين المسلمين وبين أعدائهم لم تكن أهدافها ـ بالنسبة إلى المسلمين ـ مصادرة الأموال وإبادة الأرواح، وإفناء الناس، أو إكراه العدو على اعتناق الإسلام، وإنما كان الهدف الوحيد الذي يهدفه المسلمون من هذه الحروب هو الحــرية الكاملة للناس فـي العــقيدة والــدين {فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر} [الكهف: 29]. لا يحول بينهم وبين ما يريدون أي قوة من القوات، وقدحصل هذا الهدف بجميع أجزائه ولوازمه، وبطريق ربما لا يحصل بمثله في الحروب مع الفتح المبين، وقد كسب المسلمون لأجل هذه الحرية نجاحاً كبيراً في الدعوة، فبينما كان عدد المسلمين لا يزيد على ثلاثة آلاف قبل الهدنة صار عدد الجيش الإسلامي في سنتين عند فتح مكة عشرة آلاف.
أما البند الثاني فهو جزء ثان لهذا الفتح المبين، فالمسلمون لم يكونوا بادئين بالحروب، وإنما بدأتها قريش، يقول الله تعالى: {وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [التوبة: 13]، أما المسلمون فلم يكن المقصود من دورياتهم العسكرية إلا أن تفيق قريش عن غطرستها وصدها عن سبيل الله، وتعمل معهم بالمساواة، كل من الفريقين يعمل على شاكلته، فالعقد بوضع الحرب عشر سنين حد لهذه الغطرسة والصد، ودليل على فشل من بدأ بالحرب وعلى ضعفه وانهياره.
أما البند الأول فهو حد لصد قريش عن المسجد الحرام، فهو أيضاً فشل لقريش، وليس فيه ما يشفي قريشاً سوي أنها نجحت في الصد لذلك العام الواحد فقط.
أعطت قريش هذه الخلال الثلاث للمسلمين، وحصلت بإزائها خلة واحدة فقط، وهي ما في البند الرابــع، ولـكن تلك الخلة تافهة جداً، ليس فيها شيء يضر بالمسلمين، فمعلوم أن المسلم ما دام مسلماً لا يفر عن الله ورسوله، وعن مدينة الإسلام، ولا يفر إلا إذا ارتد عن الإسلام ظاهراً أو باطناً، فإذا ارتد فلا حاجة إليه للمسلمين، وانفصاله من المجتمع الإسلامي خير من بقائه فيه، وهذا الذي أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله). وأما من أسلم من أهل مكة فهو وإن لم يبق للجوئه إلى المدينة سبيل لكن أرض الله واسعة، ألم تكن الحبشة واسعة للمسلمين حينما لم يكن يعرف أهل المدينة عن الإسلام شيئاً؟ وهذا الذي أشار إليه النبي بقوله: (ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجاً ومخرجاً).
والأخذ بمثل هذا الاحتفاظ، وإن كان مظهر الاعتزاز لقريش، لكنه في الحقيقة ينبئ عن شدة انزعاج قريش وهلعهم وخَوَرِهم، وعن شدة خوفهم على كيانهم الوثني، وكأنهم كانوا قد أحسوا أن كيانهم اليوم على شفا جُرُف هار لا بد له من الأخذ بمثل هذا الاحتفاظ. وما سمح به النبي صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسترد من فرّ إلى قريش من المسلمين، فليس هذا إلا دليلاً على أنه يعتمد على تثبيت كيانه وقوته كمال الاعتماد، ولا يخاف عليه من مثل هذا الشرط.
* حزن المسلمين ومناقشة عمر النبي صلى الله عليه وسلم :
هذه هي حقيقة بنود هذ الصلح، لكن هناك ظاهرتان عمت لأجلهما المسلمين كآبة وحزن شديد.
الأولي: أنه كان قد أخبرهم أنا سنأتي البيت فنطوف به، فما له يرجع ولم يطف به؟
الثانية: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى الحق، والله وعد إظهار دينه، فما له قبل ضغط قريش، وأعطي الدَّنِيَّةَ في الصلح؟
كانت هاتان الظاهرتان مثار الريب والشكوك والوساوس والظنون، وصارت مشاعر المسلمين لأجلهما جريحة، بحيث غلب الهم والحزن على التفكير في عواقب بنود الصلح.ولعل أعظمهم حزناً كان عمر بن الخطاب، فقد جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ألسنا على حق وهم على باطل؟ قـال: (بلى). قـال: أليس قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار؟ قال: (بلي). قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا، ونرجع ولما يحكم الله بيننا وبينهم؟ قال: (يا ابن الخطاب، إني رسول الله ولست أعصيه، وهو ناصري ولن يضيعني أبداً). قال: أوليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: (بلي، فأخبرتك أنا نأتيه العام؟) قال: لا. قال: (فإنك آتيه ومطوف به).
ثم انطلق عمر متغيظا فأتي أبا بكر، فقال له كما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ورد عليه أبو بكر، كما رد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء، وزاد: فاستمسك بغَرْزِه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق.
ثم نزلت: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا...} إلخ [سورة الفتح:1]، فأرسل رسول الله إلى عمر فأقرأه إياه. فقال: يا رسول الله، أو فتح هو؟ قال: (نعم). فطابت نفسه ورجع.
ثم ندم عمر على ما فرط منه ندماً شديداً، قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً، مازلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخافة كلامي الذي تكلمت به، حتى رجوت أن يكون خيراً
.
* انحلت أزمة المستضعفين :
ولما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، واطمأن بها، انفلت رجل من المسلمين، ممن كان يعذب في مكة، وهو أبو بَصِير، رجل من ثقيف حليف لقريش، فأرسلوا في طلبه رجلين، وقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: العهد الذي جعلت لنا. فدفعه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرجلين، فخرجا به حتى بلغا ذا الحُلَيْفَة، فنزلوا يأكلون من تمر لهم، فقال أبو بصير لأحد الرجلين: والله إني لأري سيفك هذا يا فلان جيداً، فاستله الآخر فقال: أجل، والله إنه لجيد، لقد جَرَّبْتُ به ثم جَرَّبْتُ. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه، فأمكنه منه، فضربه حتى برد.
وفر الآخر حتى أتي المدينة، فدخل المسجد يعدو، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه: (لقد رأى هذا ذعراً)، فلما انتهي إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: قُتِل صاحبي، وإني لمقتول، فجاء أبو بصير وقال: يا نبي الله، قد والله أوْفَي الله ذمتك، قد رددتني إليهم، ثم أنجاني الله منهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ويل أمه، مِسْعَر حَرْبٍ لو كان له أحد)، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم، فخرج حتى أتي سِيفَ البحر، وينفلت منهم أبو جندل بن سهيل، فلحق بأبي بصير، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير، حتى اجتمعت منهم عصابة. فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام إلا اعترضوا لها، فقتلوهم وأخذوا أموالهم. فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم لما أرسل، فمن أتاه فهو آمن، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، فقدموا عليه المدينة.
* إسلام أبطال من قريش :
وفي سنة 7 من الهجرة بعد هذا الصلح أسلم عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة، ولما حضروا عند النبـي صلى الله عليه وسلم قـال: (إن مكـة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها)
*المرحلة الثانية: طور جديد :
إن صلح الحديبية كان بداية طور جديد في حياة الإسلام والمسلمين، فقد كانت قريش أقوي قوة وأعندها وألدها في عداء الإسلام، وبانسحابها عن ميدان الحرب إلى رحاب الأمن والسلام انكسر أقوي جناح من أجنحة الأحزاب الثلاثة ـ قريش وغَطَفَان واليهود ـ ولما كانت قريش ممثلة للوثنية، وزعيمتهم في ربوع جزيرة العرب انخفضت حدة مشاعر الوثنيين، وانهارت نزعاتها العدائية إلى حد كبير، ولذلك لا نري لغطفان استفزازاً كبيراً بعد هذه الهدنة، وجل ما جاء منهم إنما جاء من قبل إغراء اليهود.
أما اليهود فكانوا قد جعلوا خيبر بعد جلائهم عن يثرب وكرا للدس والتآمر، وكانت شياطينهم تبيض هناك وتفرخ، وتؤجج نار الفتنة، وتغري الأعراب الضاربة حول المدينة، وتبيت للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، أو لإلحاق الخسائر الفادحة بهم، ولذلك كان أول إقدام حاسم من النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح هو شن الحرب الفاصلة على هذا الوكر.
ثم إن هذه المرحلة التي بدأت بعد الصلح أعطت المسلمين فرصة كبيرة لنشر الدعوة الإسلامية وإبلاغها، وقد تضاعف نشاط المسلمين في هذا المجال، وبرز نشاطهم في هذا الوجه على نشاطهم العسكري ؛ ولذلك نري أن نقسم هذه المرحلة إلى قسمين:
1 ـ النشاط في مجال الدعوة، أو مكاتبة الملوك والأمراء.
2 ـ النشاط العسكري.
وقبل أن نتابع النشاط العسكري في هذه المرحلة، نتناول موضوع مكاتبة الملوك والأمراء ؛ إذ الدعوة الإسلامية هي المقدمة طبعاً، بل ذلك هو الهدف الذي عاني له المسلمون ما عانوه من المصائب والآلام، والحروب والفتن، والقلاقل والاضطرابات.
* مكاتبة الملوك والأمراء :
في أواخر السنة السادسة حين رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية كتب إلى الملوك يدعوهم إلى الإسلام.
ولما أراد أن يكتب إلى هؤلاء الملوك قيل له: إنهم لا يقرءون كتابا إلا وعليه خاتم، فاتخذ النبي صلى الله عليه وسلم خاتماً من فضة، نقشه: محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا النقش ثلاثة أسطر: محمد سطر، ورسول سطر، والله سطر، هــكذا.
واختار من أصحابه رسلاً لهم معرفة وخبرة، وأرسلهم إلى الملوك، وقد جزم العلامة المنصورفوري أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل هؤلاء الرسل غرة المحرم سنة سبع من الهجرة قبل الخروج إلى خيبر بأيام. وفيما يلي نصوص هذه الكتب، وبعض ما تمخضت عنه.
1 ـ الكتاب إلى النجاشي ملك الحبشة:
وهذا النجاشي اسمه أصْحَمَة بن الأبْجَر، كتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن أمية الضَّمْرِي في آخر سنة ست أو في المحرم سنة سبع من الهجرة. وقد ذكر الطبري نص الكتاب، ولكن النظر الدقيق في ذلك النص، يفيد أنه ليس بنص الكتاب الذي كتبه صلى الله عليه وسلم بعد الحديبية، بل لعله نص كتاب بعثه مع جعفر حين خرج هو وأصحابه مهاجرين إلى الحبشة في العهد المكي، فقد ورد في آخر الكتاب ذكر هؤلاء المهاجرين بهذا اللفظ: (وقد بعثت إليكم ابن عمي جعفراً ومعه نفر من المسلمين، فإذا جاءك فأقرهم ودع التجبر).
وروي البيهقي عن ابن إسحاق نص كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي، وهو هذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. هذا كتاب من محمد رسول الله إلى النجاشي، الأصحم عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدي، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلاالله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبه ولا ولداً، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الإسلام، فإني أنا رسوله فأسلم تسلم، {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك).
وقد أورد المحقق الكبير الدكتور حميد الله ـ باريس ـ نص كتاب قد عثر عليه في الماضي القريب ـ بمثل ما أورده ابن القيم مع الاختلاف في كلمة فقط ـ وبذل الدكتور في تحقيق ذلك النص جهداً بليغاً، واستعان في ذلك كثيراً باكتشافات العصر الحديث، وأورد صورته في الكتاب وهو هكذا:
(بسم الله الرحمن الرحيم. من محمد رسول الله إلى النجاشي عظيم الحبشة، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسي بن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، فحملت بعيسي من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده، وإني أدعو إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وأن تتبعني، وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت ونصحت، فاقبل نصيحتى، والسلام على من اتبع الهدى).
وأكد الدكتور المحترم أن هذا هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي بعد الحديبية، أما صحة هذا النص فلا شك فيها بعد النظر في الدلائل، وأما أن هذا الكتاب هو الذي كتب بعد الحديبية فلا دليل عليه، والذي أورد البيهقي عن ابن إسحاق أشبه بالكتب التي كتبها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ملوك وأمراء النصاري بعد الحديبية، فإن فيه الآية الكريمة: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ...} إلخ، كما كان دأبه في تلك الكتب، وقد ورد فيه اسم الأصحمة صريحاً، وأما النص الذي أورده الدكتور حميد الله، فالأغلب عندي أنه نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته، ولعل هذا هو السبب في ترك الاسم.
وهذا الترتيب ليس عندي عليه دليل قطعي سوي الشهادات الداخلية التي تؤديها نصوص هذه الكتب. والعجب من الدكتور حميد الله أنه جزم بأن النص الذي أورده البيهقي عن ابن عباس هو نص الكتاب الذي كتبه النبي صلى الله عليه وسلم بعد موت أصحمة إلى خليفته مع أن اسم أصحمة وارد في هذا النص صريحاً، والعلم عند الل